د.محمد ابوحمور
وزير مالية سابق
أشارت نتائج استطلاع مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الاردنية التي صدرت مؤخراً الى أن التهديد الداخلي الاول الذي يواجه الاردن هو تردي الاوضاع الاقتصادية، وقبل ذلك كانت التوجيهات الملكية واضحة فيما يتعلق بضرورة ايلاء الجانب الاقتصادي ما يستحقه من اهتمام ، وأشارت هذه التوجيهات الى أهمية تعافي الاقتصاد من الاثار الناجمة عن أزمة كورونا بأقصى سرعة ممكنة حفاظاً على مصالح المواطنين الاردنيين ، أضافة الى التأكيد على أمكانية تحقيق ذلك باعتبار ان المملكة نجحت في الحفاظ على مستوى منخفض من الاصابات ومنعت انتشار الوباء واستطاعت التعامل معه بأقل الخسائر .
لذلك فالمرحلة الجديدة تتطلب التفكير في كيفية تطوير الوضع الاقتصادي حماية للمواطن ومعيشته ومستقبله، ولم تقتصر التوجيهات الملكية على ذلك بل تضمنت ايضاً رسائل محددة تناولت مفاصل اساسية لتحقيق التعافي بما في ذلك أهمية تطوير القطاع الصناعي لدعم الاقتصاد الوطني وتوفير فرص العمل، والتركيز على إنتاج المواد الأولية اللازمة للصناعات الوطنية، لسد حاجة السوق المحلي ولغايات التصدير مع توسيع قاعدة الدول التي يتم التصدير لها من خلال فتح أسواق جديدة، هذا بالاضافة الى توجيه البحث العلمي وربط الجامعات ومراكز البحث بتطوير الصناعات المحلية، وضرورة التركيز على مدخلات الإنتاج المحلي، ومعالجة المعيقات التي تواجه توسيعه، والعمل على تطوير منتجات جديدة. تكثيف الجهود لتطوير مواصفات وجودة المنتجات المحلية، وأهميّة التوسع في صناعات جديدة بقطاعات الأدوية والمستلزمات والمعدات الطبية والتصنيع الغذائي لغايات رفد السوق المحلي والتصدير. فالأردن يتميز إقليمياً بقطاعات مهمة، منها القطاع الطبي، حيث تصنيع الأدوية والمعدات الطبية، والقطاع الزراعي،ما يعني الالتفات لأهمية حصر الأراضي القابلة للزراعة في المملكة، وأنواع الزراعات التي تصلح فيها، كما تضمنت الرسائل الملكية التأكيد على أهمية القطاع السياحي وضرورة بذل الجهود لاستقطاب مستثمرين لإقامة مشاريع سياحية في المملكة. وكذلك التركيز على السياحة الداخلية، واستقطاب السياحة الخارجية، مثل سياحة المسارات والسياحة العلاجية وصناعة الأفلام، ضمن إجراءات وقائية تفيد بأن الأردن قادر على استقبال الضيوف وحمايتهم .
وتضمنت التوجيهات الملكية ايضاً ضرورة تحديد جهة مسؤولة عن تنفيذ التوسع في الصناعات ضمن برنامج زمني واضح مع الاستمرار في متابعة عملية الإنجاز والتطوير لهذه الخطط، بهدف دعم وتطوير الصناعة المحلية وصولاً الى النهوض بالاقتصاد الوطني ، وهناك توجيه واضح بضرورة أن يستثمر الأردن الفرص المتوفرة لديه خلال هذه الفترة، والاستفادة من الشراكات الاستراتيجية مع العديد من الدول، مثل دول الخليج العربي، وفي أشارة واضحة لعمق الادراك لطبيعة المرحلة الحالية بين جلالة الملك أن "كورونا غيرت العالم"، وأن مفهوم إعادة ضبط العولمة يعني أننا نعيش في عالم جديد، ولا بد من تعاون الدول فيما بينها.
من الواضح أننا في الاردن قادرون على تحديد أمكانياتنا وسبل الاستفادة منها ، ولكن ذلك مرتبط أيضاً بالاوضاع الاقتصادية في الاقليم والعالم ، حيث تبدو التوقعات متشائمة الى حد كبير فوفقاً لتوقعات تقرير البنك الدولي "الافاق الاقتصادية العالمية" الذي صدر هذا الشهر "فقد أحدثت جائحة كورونا أشد كساد شهده العالم منذ عقود. ومع أن النتيجة النهائية لا تزال غير معروفة، فإن الجائحة ستؤدي إلى انكماش اقتصادي في الأغلبية الشاسعة من اقتصادات الأسواق الصاعدة والبلدان النامية. وستلحق أيضا ضررا دائما بإنتاجية الأيدي العاملة والإنتاج المحتمل.
وينبغي أن تكون الأولويات الفورية للسياسات تخفيف الخسائر البشرية والتقليل من الخسائر الاقتصادية في الأجل القريب. وحينما تنحسر الأزمة، سيكون من الضروري إعادة التأكيد على التزام صادق بانتهاج سياسات مستدامة وإجراء الإصلاحات اللازمة لدعم آفاق النمو في الأجل الطويل. وستكون للتنسيق والتعاون على الصعيد الدولي أهمية بالغة"
ووفقاً لذات التقرير من المتوقع ان يعاني الاقتصاد العالمي من انكماش نسبته 5.2% من إجمالي الناتج المحلي العالمي في عام 2020، وهو أسوأ معدل منذ الحرب العالمية الثانية بما في ذلك بنسبة 6.1% للولايات المتحدة واليابان، و9.1% لمنطقة اليورو، و8.0% للبرازيل و3.2% للهند، ومن المتوقع أن تحافظ الصين على نمو عند 1.0% في 2020، أما في منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا فمن المتوقع أن تبلغ نسبة الانكماش 4.2% ، منها الدول المصدرة للنفط بحوالي 5% ، أما الاردن فيتوقع لها التقرير تراجع بنسبة 3.5%،.
وكذلك سيتراجع متوسط نصيب الفرد من الدخل في معظم اقتصادات الأسواق الصاعدة والبلدان النامية حيث من المتوقع ان يزداد عدد الفقراء بحوالي 100 مليون فرد، اما وفقا للسيناريو الأسوء، فقد يهوي إجمالي الناتج العالمي بنسبة تصل إلى 8% ، مع انكماش الناتج في اقتصادات الأسواق الصاعدة والبلدان النامية بنحو 5% هذا العام ، ثم يشهد تعافيا طفيفا في العام التالي مسجلا نموا يزيد قليلا عن 1% .
أما تقرير مستجدات افاق الاقتصاد العالمي الذي أصدره صندوق النقد الدولي قبل أيام قليلة فقد توقع وصول الدين العام عالمياً الى حوالي 101% في 2020،وهذا يشكل طفرة تعادل 19 نقطة مئوية مقارنة بالعام السابق، يضاف لذلك أرتفاع حاد في متوسط العجز للمالية العامة ليصل الى 14% من أجمالي الناتج ، أي بارتفاع 10 نقاط مئوية عن عام 2019 ، وعلى مستوى منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا(وأفغانستان وباكستان) من المتوقع أن يصل العجز الى 9.8% عام 2020 والى 7.8% عام 2021 .
بالرغم من أهمية التقارير والتوقعات التي تصدرها الجهات الدولية أو مراكز الدراسات الا انها تحمل في طياتها قدراً كبيراً من عدم اليقين خاصة وأنها تعتمد المعطيات الانية التي قد تتغير بين فترة وأخرى في ضوء ما يستجد من ظروف ، وهي ايضاً تخضع للتحديث والتعديل بين وقت واخر، لذلك لا يمكن الاعتماد عليها بشكل كامل لتكوين تصور واقعي ومتكامل حول الظروف المستقبلية ولكن هناك ملامح عامة يتفق أغلب المحللين بشأنها ويمكن من خلالها تحديد تصور أولي لبناء سيناريوهات اقتصادية ديناميكية قادرة على التفاعل والاستجابة للمستجدات والتطورات، من أهمها دور الدولة ومدى متانة مؤسساتنها وقدرتها على اتخاذ اجراءات فاعلة في مختلف الميادين بما في ذلك القدرة على تبني سياسات اقتصادية ومالية ونقدية تمكنها من مجابهة مختلف التحديات.
ولعل التحدي المستقبلي الأكثر حدة سيتمثل في كيفية معالجة أعباء المديونية المرتفعة ، وكيف سيتم صياغة سياسات الانفاق الحكومي بشكل يؤمن الاستثمار المجدي في راس المال البشري ومعالجة مشاكل الفقر وتحسين الخدمات المقدمة للمواطنين ومشاريع البنية التحتية ، كما سنواجه ايضاً تحدياً يرتبط بشكل وثيق بالسياسات الاقتصادية في مجالات جذب وتحفيز الاستثمارات بما في ذلك الشركات الصغيرة والمتوسطة وكذلك الانشطة الاقتصادية التي يتم ممارستها في الاقتصاد غير الرسمي، وبما يساهم في التصدي لمشكلة البطالة خاصة وأن ما تشير اليه المعطيات الانية يؤكد ان سوق العمل بشكله التقليدي قد يشهد تغيرات جوهرية سواء ما يتعلق بطبيعة الوظائف أو أسلوب ممارستها.
هذا ومن جانب اخر فقد بات جلياً ان تكنولوجيا المعلومات وما تشكله من بنية أساسية ستقوم بدور مفصلي في مجال التجارة والتعليم عن بعد وحتى العمل عن بعد ناهيك عن دورها في توفير وسائل الترفيه الالكترونية ومجالات أخرى يمكن أن تشكل السمة المميزة لاقتصادات المستقبل ولتلعب دوراً حاسماً في مستوى التنافسية والانتاجية ومن التحديات الاساسية التي قد تظهر مستقبلاً تغير أنماط الاستهلاك ما يستدعي من المنتجين التاقلم مع هذه المتغيرات.
وبالرغم من كثرة الحديث حول الاكتفاء الذاتي والانكفاء الداخلي الا أن فكرة التكامل على المستويين الاقليمي والعالمي سواء ما يتعلق بسلاسل القيمة والامداد أو حرية التجارة ستبقى تحمل في طياتها افاقاً للنمو والتطور لمختلف الاقتصادات ، ويشير الباحثون الى ان الاقتصادين المهيمنين في العالم ،الامريكي والصيني ، كلاهما مرتبطان بعوامل الاعتماد المتبادل بحيث ان أي محاولة للفصل ستترك اثاراً سلبية على الطرفين وليس من الضرورة أن تسفر المنافسة التي قد تتضمن بعض المماحكات عن قطع الوشائج الاقتصادية ، وتشير التطورات الاخيرة الى أن المؤسسات الدولية قادرة على تعزيز دورها، حيث استطاعت أن تقوم بدور الملاذ الاخير للدول التي لم تستطع الحصول على تمويل من مصادر اخرى.
من المفهوم أن لا أحد يمكنه الجزم بالتطورات المستقبلية ، ولكن هذا لا يعني الاكتفاء بموقف المتفرج أو المراقب بل لا بد من السعي بشكل حثيث لمتابعة ما يحدث وتعديل التوقعات والافتراضات في ضوء المستجدات وصولاً الى بناء سيناريوهات منطقية وقابلة للتعديل وفقاً للتغيرات المتوقعة ، فهناك شبه اجماع أن ما بعد كورونا ليس كما قبلها ونحن أحوج ما نكون لفهم وتقدير الفرص المستقبلية لنستطيع الاستفادة منها بشكل ملائم وهذا ما يحتم علينا ضرورة التفكير ومنذ الان في كيفية التاقلم واقتناص الفرص التي تأتي عادة لمن هو مستعد لها، ولا شك باننا في الاردن نمتلك المقومات التي تؤهلنا ليس فقط للتفكير في المستقبل بايجابية وانما ايضاً لنكون مستعدين للتعامل معه عبر السيناريوهات الملائمة وهذا ما سوف نبحثه في المقالة القادمة.
30-حزيران-2020 23:11 م